YOUTUBE
Twitter
Facebook

20161004_170810

أسعد رشدان

 

منذ اربع عشرة سنة، طلّقت مهنة التمثيل بالثلاث.  
قد يتساءل البعض، وهذا تساؤل مشروع: 
لماذا قد يفعل ذلك ممثل معروف، مشهور على مدى ثلاثين عاماً، لم يغب فيها لحظة واحدة ولو على شاشة واحدة، في لبنان و العالم العربي؟     
حان وقت الاعتراف   …
بدأت حياتي المهنيّة مدرّساً للّغة الفرنسيّة في الرسمي والخاص بعد تخرّجي من دار المعلمين والمعلمات سنة ١٩٧٣، وتابعت دراستي الجامعية متخصّصاً في التمثيل والاخراج في الجامعة اللبنانية. وتابعت دورات تدريبية في اللغة والتمثيل في باريس ما بين سنتي ١٩٨٠-١٩٨١، ودورة في التمثيل والإخراج في جامعة هيوستن – تكساس سنة ٢٠٠٦.
الاخراج مادة ترتكز على الموهبة، ولكنّ التخصّص فيها ممرّ اجباري، نظراً لارتباطها بالتقنيّة المتمثّلة بالكاميرا وبلُغتها التي لا تقبل الشك او الجدل. علما بانها قد تختلف نوعا ما عن اللعبة المسرحية المختلفة عنها بالأساس في أمور كثيرة    .
اما في التمثيل فتبقى الموهبة تحتلّ المساحة الاكبر في هذه اللعبة، ويقتصر دور العلم والمعرفة فيها، على تقنيات استعمال الجسد بكليته بشكل سليم يخدم متطلبات الشخصيات التي قد يجسّدها الممثل في مسيرته الشاقة. اقول شاقة، في حال اراد الممثل الا يكون جنديَّ شطرنج على رقعة الفن الدرامي.
دخلت معترك الفن مهنيا منذ سنتي الجامعيّة الأولى، وتسلّقت سلّم النجاح بسرعة ملحوظة، يوم كان للموهبة والمعرفة القسط الاكبر والدور الاساس في لعبة النجاح والشهرة. يوم كان المخرج والكاتب هما قبطان السفينة ومعاونه.
شركة الانتاج، والتي كانت تتمثّل بتلفزيون لبنان، اقتصر دورها على تهيئة المناخات الملائمة لتنفيذ الاعمال، وذلك من ناحية تأمين الستوديوهات والتقنيات والاموال اللازمة، كمكافآت الممثلين وأجورمنفذي الانتاج.
لم تتدخل شركة الانتاج ولا مديرها العام يوماً في اختيار بطلٍ لمسلسل او حتى كومبارس.
لم يساوم مخرجٌ يوماً على دور مهما كان صغيراً، بأن يُسنده الى شخص غير كفؤ، لان دوراً صغيراً لا يؤديه ممثل متمكن، قد يطيح بعمل كبير ولو من ناحية بعض التململ من قبل المشاهد كما هو حاصل اليوم.
اعطي مثلا على ذلك :
هل بامكانك تحمّلُ صوتٍ صغير تعرف مصدره، في سيارة حديثة كلّفك شراؤها الكثير ؟؟؟
أشك في ذلك بل أجزم…
ما حصل، انه بعد اقفال تلفزيون لبنان، القناة ٥ ، والتي كانت تحوي الادارة العامة للانتاج والبث، وقد أُقفلت بحجة ضبط الهدر، كذبا وبهتانا، بل لاسباب سياسية وخدمة لمصالح شخصية، انتقلت لعبة الانتاج الدرامي الى شركات التلفزيون الخاصة المتعطّشة الى هذا القطاع المدرّ للاموال وكان تلفزيون لبنان يحصد تلك الارباح لمصلحة الدولة اللبنانية بعكس ما ادّعى المدّعون يومها.
تذكرون جميعكم الفورة الانتاجية، وما تبعها من فورة الدبلجة الشهيرة للمسلسلات المكسيكية على مدى عشر سنوات وما فوق، وكلنا نعرف أن لبنان بحجمه الاقتصادي الصغير نسبة الى حجمه الجغرافي والسكاني، اصغر من ان يحتمل وجود اكثر من شركة تلفزيون واحدة او اثنتين على ابعد تقدير.
من اين سيؤتى بالتمويل لتلك الشركات التي فاق عددها ايّ توقع؟
وقعت الواقعة …
علينا الاعتراف بانه مع الشركات المستحدثة، بقيت النوعية متحكمة بقطاع الانتاج، لان القيمين على تلك الشركات، كانوا من الجيل المتخصّص في الخارج، وكانوا يعلمون علم اليقين بان الجودة هي الشرط الوحيد للنجاح، ومحطة ال LBC كانت الدليل القاطع والساطع على ثبات هذه النظرية العلمية الصحيحة.
استمرت بعد ذلك الحالة السياسية بالتقهقر مع الاحتلالات المتعددة الأوجه للبلد وانعكاس هذا الواقع على التحكم بكل مفاصل البلد، وبالتالي، تحقق هدف هذه الاحتلالات بكسر الحالة الحضارية للبلد على كل الاصعدة الثقافية والاجتماعية والفنية المجسِّدة للحرية عدوة الانظمة الدكتاتورية العربية كلها بامتياز.
اين اصبح موقع الانتاج الدرامي في هذه المعمعة الاعلامية والاعلانية ؟
شحّت الموارد، فالرغيف بات يتقاسمها عشرة بدل اثنين أو ثلاثة.
اقفلت الشركات قطاعات تنفيذ الانتاج الدرامي، وعلى رأسها قطاع الدوبلاج، واستعاضت عنه بمسلسلات مكسيكية وهندية وتركية مدبلجة باللهجة السورية وباسعار رمزية تدر الارباح نفسها، فانتعش القطاع السوري وحقق المحتل خطوة اولى في مسيرته الطويلة باتجاه زعزعة اساسات البلد الا وهي الفن والثقافة، وبدأ المرض ينخر كل المفاصل….
مرحبا أخوّة.
في القطاع الدرامي، اتجهت شركات التلفزيون الى تلزيم تنفيذ المسلسلات والافلام الدرامية، بميزانيات تقل الى مستوى النصف عن ميزانيّتها المنطقية المعتادة، واستُشهدت الجودة في احضان الاستفادة المادية الآنية، وتناسى القيّمون على المحطات نظريات الجودة، وتملكتهم النظرية الفينيقية التجارية البحتة، فسقطوا وسقطنا.
كانت الحلقة التلفزيونية الجيدة تتطلب تكلفة تصل الى خمسة عشر الف دولار اميركي، فجرى تلزيمها بعشرة آلاف للكاتب او المخرج، على ان تقدّم الشركة معدات التصوير التي تمتلكها بالاساس وتسعى الى الاستفادة من تشغليها مع مشغّليها.
تراجعت القيمة الى ثمانية آلاف، فبدأ المنتج المنفّذ يقتطع من اجر الممثل لصالح ميزانيّته وربحه اللذين تقلصا الى ادنى مستوى. تقلصت معها الجودة وكذلك الاحترام المتبادل بين عناصر النجاح.
الى ذلك، استُبدلت الاستديوهات ببيوت الناس، وهنا الطامة الكبرى، ومن هنا بدأت المشكلة.
ومن منكم حصل له ان استضاف تصوير مشهد واحد في منزله، يعرف تماما عماذا اتكلّم، وهو ما زال يلعن الساعة التي وافق فيها على السماح باستعمال بيته لهذا الغرض. كان هذا من اهم الاسباب التي دفعتني الى الهروب وليس الاعتزال.
شحّ الميزانية، دفع المنتج المنفّذ الى تقليص اجر الممثل بهذه الحجة وهذا بدوره، دفع بالممثل للرضوخ لهذا الواقع، بهدف الاستمرار في تحصيل لقمة العيش، ناهيك عن شهوة الشهرة وحب الظهور المتحكّمَين بشرايين المواطن اللبناني حتى النخاع ومن كل الاطياف.
لم اتقبّل هذا الواقع. ولي عدة تجارب تدمي القلب، كان آخرها ما دفعني الى اتخاذ قرار الهروب خلال عشرة ايام.
لم يكن قراري بعد قرار هجرة…
استمرار التراجع والتقهقر على المستوى المهني والمعيشي، رافقه تقهقر اقوى على المستوى السياسي والوطني. غادرت على امل ضئيل بعودة الروح الى مفاصل الوطن، بدءا بالسياسة عصب الأوطان، والتي تتفرع منها كل مقومات الحياة الكريمة فيه، والتي هي انعكاس لها،
وانتظرت وراقبت وعملت بكد وجهد لتأمين معيشتي وعائلتي، متشبّثًا بعزة نفسي وكرامتي وثباتي على مبادئي وعنادي، ولكن …
استمر التراجع وعلى كل المستويات.
بقيت على تواصل مع الداخل لحظة بلحظة، من خلال وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وما لمحت بصيص امل في مستقبل منظور.
عدت بعد فترة، على امل تغيّرٍ في اجواء الاوساط الفنية، فعملت في احد المسلسلات لصالح إحدى المحطات المعروفة، وانتظرت لاحصل على اجري. انتظرت ثلاثة اشهر على ذاك الامل، والنتيجة لا شيء. حزمت حقائبي من جديد …
قابلتني يومها، الصديقة العزيزة، الصحافيّة ماغي سفر لصالح مجلة الشبكة في خريف ٢٠٠٣ ، فعنونَت اللقاء ب : “أقدّم استقالتي من الوطن”.
مرّت السنون بطيئة في الغربة، اما الأحداث في الوطن المزعوم، فقد كانت تنحدر به بسرعة فائقة …
واستُشهد الأمل….
غاب الفن عن ذاكرتي، لا بل حاول الانتحار ولكنه لم يمت .
دخل في الكوما، الى ان انعشه اتصال بالحبيبة الغالية منى طايع، بعد نجاحها الذي كان متوقعاً من قبلي، تدعوني للمشاركة في مسلسل جديد لها :
” عشق النساء “…
زوّدتني به عبر الانترنت، قرأته بنهم، أشعل فيّ الحنين الى الايام الخوالي، من جودة النص واجواء العمل الاحترافي الضخم، فوافقت فورا دون تحفّظ. طبعت النصوص، جلّدتها، وبدأت بتفريغ المشاهد وتحضيرها، وانتظرت      …
انتظرت اربع سنوات  …
الاسباب هي نفسها، والنتيجة ايضا : مافيات الانتاج المتفلّت من كل رقيب او حسيب، يضاف اليه، جشع المحطات وتآمرها مع المنتجين تلبية للمصالح المادية المشتركة، بغض النظر عن ادنى الثوابت المهنية والاخلاقية .
تكررت التجربة في مسلسل “أمير الليل” فكان تحفظي كبيرا جدا، إذ ان شيئاً لم يتغيّر في مسار الامور، الى ان قالت لي منى : نحن المنتجون …
شركة طايع من جهة منى حيث ثقتي بها عمياء وهي جديرة بها، وشركة M&M Pro لصاحبيها ميلاد ومي ابي رعد. كان ميلاد وما زال اضافة الى منى، وبعدهما مي، من افضل الاصدقاء على الإطلاق، إن من الناحية الفنية ام الاخلاقية .
لم تتغيّر العلاقة ولا القناعة بما ذكرت، لكني للاسباب نفسها التي دفعتني الى المغادرة أقول:
عدت، ويا ليتني لم أعد.
فالجسم المريض لا يمكن لعضو او لاثنين فيه أن يجنّباه الموت المحتّم، ولو بارادة افضل الأطبّاء… بل يموتان معه… ولا ينفع بعدها البكاء ولا صرير الاسنان …
وتاجر البطاطا، كي لا نقول اكثر، لا يمكن له ان ينجح في عالم المجوهرات.

القرار اليوم     :
سوف اعمل مع الشياطين من أجل كسب لقمة عيشي، وإنما بشروطي، حفاظاً على كرامتي وكرامة أولادي وأحفادي، فهي ثروتي الوحيدة التي سأورّثهم إياها   …
وسوف أحصل على حقّي بيدي، وقد سبق وفعلت، والله وحده عالم بقدرتي على ذلك، في بلد لا حقّ لمظلوم فيه، الا بالموت وبالموت فقط ….

اللّهم اني بلّغت

 

 

اقرأ الآن