YOUTUBE
Twitter
Facebook
1201829125634523-635x357
  كان هناك كثيرٌ من الجمر تحت رماد العلاقة بين التيار الوطني الحر و حركة أمل. أما التهدئة الأخيرة فربما تكون أسفرت عن مزيد من الجمر غير المستور كثيراً. لم يكن تصريح وزير الخارجية جبران باسيل في بلدة مِحمَرش، الذي نَعَتَ فيه رئيسَ مجلس النواب نبيه بري ب “البلطجي”، بداية التدهور بين الرئاستين الأولى و الثانية في لبنان. فالبداية ترقى إلى وقت بعيد يسبقُ اعتراضَ بري على انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية.

يبدو الآن، بعد مقابلة مع وزير الخارجية جبران باسيل نشرتها مجلة “ماغازين” اللبنانية الناطقة بالفرنسية، أن مشكلة التيار الوطني الحر تشملُ طرفي الثنائي الشيعي لا حركةَ أمل وحدَها.

الأسبابُ الداخلية التي يُمكن إسنادُ تدهورِ العلاقة بين عون و بري إليها تشملُ، على سبيل المثال لا الحصر، ترقية دُفعة العام 1994 من تلامذة المدرسة الحربية، ملفَّ حقول النفط و الغاز البحرية، تعديلَ قانون الإنتخاب و ما يُشاعُ عن محاولة عون استعادةَ صلاحياتٍ سابقةٍ للرئاسة الأولى أودى بها اتفاقُ الطائف. و هذا صحيح إلى حد بعيد، بما فيه استعادة الصلاحيات أو بعضها، خاصة عندما يتحدث أنصار الجنرال عون عن “رئاسة قوية” مقابل حديث بعض خصومهم عن “النظام البرلماني غير الرئاسي” في لبنان. لكن أسباباً خارجية وجيهةً تقفُ وراءَ التطورات الحاصلة الآن، يستدعي فهمُها قراءة التاريخ السياسي القريب في لبنان.

نقل البندقية

حركة أمل كانت في الفترة التي أعقبت الثورة الإسلامية في إيران حليفاً رئيساً لسوريا. في بداية ثمانينات القرن العشرين، وقف الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى جانب الإمام الخميني في الحرب التي شنها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على إيران. و سمح الأسد الأب للنفوذ الإيراني بالإنتقال إلى لبنان، و منه وحدات من الحرس الثوري تمركزت أولاً في بعلبك. لكنه وضع قيوداً على هذا النفوذ. و من نتائج التحالف بين سوريا و الحركة اندلاعُ قتالٍ دمويٍّ عنيف بين أمل من جهة و المخيمات الفلسطينية في بيروت من جهة أخرى عام   1985، (نتيجة صراع بين سوريا و منظمة التحرير) و القضاء على سلطة حركة التوحيد الإسلامية السنية المتعاونة مع إيران في مدينة طرابلس الشمالية بواسطة قوات من الحزبين الشيوعي و السوري القومي الإجتماعي بدعم واضح من الجيش السوري في العام نفسه، و نُشوبُ تقاتلٍ دامٍ بين حركة أمل و حزب الله (الذي تأسس عام 1982) بدأ عام 1988.

في الوضع الإقليمي الجديد خسرت حركة أمل سَنَدَها الخارجي في حين توثقت العلاقة بين حزب الله و سوريا. و هناك أكثرُ بل ربما أخطرُ من ذلك: عندما كان الرئيس السوري يواجه خطر السقوط عام 2015، قبل فترة من طلبه تدخل روسيا عسكرياً في بلاده، كان رئيس مجلس النواب اللبناني يحاول، بتلميحات من خصوم كُثُر، أن يجدَ لنفسه مكانا في وضع إقليمي مختلف. و كان يُعتقدُ أنه اتجه نحو تحسين علاقته مع المملكة العربية السعودية عندما كانت في ذروة تدخلها في سوريا عبر ما يُسمّى “جيش الإسلام” الذي حاول مراراً بلا نجاح اقتحام دمشق. حركة أمل لم تحذُ حذوَ حزب الله في مساندة الرئيس بشار الأسد عسكريا، و إنما اتخذ زعيمها في ذلك الوقت لنفسه موقفاً “وسطياً” تمهيدا لنقل البندقية من كتف إلى أخرى.

لم يَزُرْ رئيسُ مجلس النواب سوريا منذ اندلاع الأزمة فيها. و يتردد أن الرئيس بشار الأسد استاء منه كثيرا.  لكنه لم يتأخر عن تدارك التغييرات الإقليمية. في شهر آب من العام الماضي أوفد بري وزير الزراعة غازي زعيتر في وفد واحد مع وزير الصناعة حسن الحاج حسن (حزب الله) في زيارة رسمية إلى دمشق، في حين وقع وزير المال علي حسن خليل (حركة أمل) اتفاق استجرار الطاقة الكهربائية من سوريا. في ذلك الوقت كان الجيش السوري، بعد بضعة أشهر من استعادة السيطرة على مدينة حلب، يواصل هجومه المضاد على التنظيمات المسلحة و يحقق نجاحاً في مناطق مختلفة.

 

عون في سوريا ثم في القصر

في المقابل، بدأ الجنرال عون بتحسين علاقته مع سوريا منذ ما بعد انسحاب جيشها من لبنان عام ألفين و خمسة، ثم أبرم تفاهماً هو أقرب إلى تحالف مع حليفها الموثوق فيه حزب الله عام 2006. زار الجنرال عون سوريا في بداية كانون الأول من عام 2008 و التقى الرئيس بشار الأسد. و سبق ذلك في مايو من العام نفسه اتفاقُ الدوحة الذي جاء بالعماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية على حساب العماد ميشال عون الذي كان على علاقة سيئة مع كلٍّ من زعيم المعارضة في مؤتمر الدوحة الرئيس نبيه بري و زعيم الموالاة رئيس مجلس الوزراء في حينها فؤاد السنيورة. و برأي العماد عون كانت هذه التسوية ظالمة لتياره نظراً إلى صيغة لبنانية تقضي بأن يتولى الرئاسة الثانية الطرف الأقوى لدى الطائفة الشيعية (بتوافق بين أمل و حزب الله) و الرئاسةَ الثالثة الطرفُ الأقوى لدى السُّنَّة في حين أن الطرف الأقوى لدى المسيحيين حِيل بَينَهُ و بين تَوَلِّي الرئاسة الأولى فأُسنِدت إلى قائد الجيش الذي لم يكن يملكُ أيَّ ثقلٍ سياسي.

عند انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، بأغلبية 83 صوتا في مجلس النواب، حجبت كتلتا حركة أمل و “اللقاء الديمقراطي” بزعامة وليد جنبلاط أصواتهما عنه. أما الآن، فإن التيار الوطني الحر يخشى أن تضع الكتلتان عِصيَّاً في عجلات الحكم لتمنعانه من تحقيق أي إنجاز وطني حقيقي. و الأخطر من ذلك أن وزير الخارجية اتهم حزب الله بالإمتناع عن تنفيذ بند رئيسٍ في مذكرة التفاهم و هو بند بناء الدولة، و إنما اتهم الحزب بعرقلة بنائها. أما التظاهرات الأخيرة لأنصار حركة أمل، و منها اختراق مناطق ذات أغلبية مسيحية وصولاً إلى ارتكاب أعمال شغب أمام المقر الرئيس للتيار الوطني الحر فجعلت التيار يشعر بمرارة سببُها أن من دافع عنهم في حرب 2006 و ساعد في فتح بيوت اللبنانيين أمامهم في المحنة لم يكتفوا بإنكار المعروف و إنما استعادوا أساليبَ تَليقُ بالحرب الأهلية ظَنَّ كثيرٌ من اللبنانيين أنها وَلَّتْ إلى غير رجعة.

الوضع في لبنان و الجوار

كان الوضع في لبنان و ما زال شديد التأثر بجواره القريب، خاصة منذ بدء المسألة الفلسطينية. و الحادثة الوحيدة التي شهدت شِبْهَ تَوَحدٍ للبنانيين، بعد انقسامات تاريخية مزمنة، هي اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري و اضطرار الرئيس بشار الأسد إلى إخراج جيشه و إنهاء تحكمه بلبنان بفعل احتجاجات غير مسبوقة. لكن “الوحدة الوطنية” لم تَدُمْ طويلا و إنما أُبعِدَتْ جانباً لمصلحة تكتلات سياسية ذات صبغة طائفية. فالنائب وليد جنبلاط أطلق عبارات شائنة في حق الرئيس السوري (“في لحظة تَخَلٍّ”).  ثم اعتذر جنبلاط و زار الأسد في دمشق في شباط من العام  2010 بين زيارتين لرئيس الحكومة سعد الحريري، الأولى في كانون الأول من عام 2009 و الثانية في أيارمن العام 2010. في تلك الأيام، ضغطت المملكة العربية السعودية، من أجل مصلحتها، على الحريري حتى يتخذ موقفه من سوريا انعطافةً مهمة، فَوَجَدَ جنبلاط نفسه شِبهَ وحيدٍ فآثر المسايرة.

خلال الحرب الأهلية كان لكل من الأطراف مرجعية خارجية أو أكثر. و الآن ليس لنبيه بري و لوليد جنبلاط أي تغطية إقليمية أو دولية، و مثلهما الرئيس سعد الحريري الذي أُخرج بتدخلات إقليمية و دولية من إقامته الجبرية في السعودية. و الواقع أن من بادر إلى إنقاذه هو رئيس الجمهورية عندما رفض استقالة الحريري المعلنة من الرياض و أكد أن رئيس الوزراء محتجزٌ و أن إرادته مسلوبة.

أزمة الإستقالة القصيرة أدت إلى تحسينٍ جوهري للعلاقة بين خصمي الأمس عون و الحريري، لكنها زادت الأمور تعقيداً بين رئيس الجمهورية و رئيس مجلس النواب و رئيس اللقاء الديمقراطي، ربما امتداداً إلى حزب الله. و لما كان الشيء بالشيء يُذكر، يُعتقدُ أن حزب الله، الذي يُفاخر بدوره الإقليمي المستجد، بصفته محارباً للتنظيمات الإرهابية في سوريا ومنقذاً للأسد، قد أصابته جراح بليغة هي عبارة عن حوالي ثلاثة آلاف قتيل و مئات المعوقين و الأزمةُ السورية لم تَنْتَهِ بعد. و إذا كان الحزب يُحاول أن يبالغَ في تصوير قُوَّته، فإن روسيا لا تُخفي عن أحدٍ تأكيدَها أن تدخُّلَها في سوريا هو الذي أنقذَ حكمَ الرئيس الأسد و إيرانَ و حزبَ الله معا، و أنه لولا هذا التدخل لسقط الأسد و لَهُزمت إيرانُ و حزبُ الله.

خلافاً لما فعله بري خفيةً و جنبلاط علانيةً، خاصة بعد استعادة الأخيرِ عداوتَه لدمشق إثر اندلاع الحرب في سوريا، حافظ مؤسس التيار الوطني الحر على علاقة الصداقة مع سوريا، لا سيما بعد سيطرة التشكيلات الإرهابية المدعومة من دول في الخليج و من تركيا على الأوضاع في المناطق الخارجة على سيطرة الدولة و ارتكابها فظاعات بحق المسيحيين و غير المسيحيين. و بعد تولي العماد عون رئاسة الجمهورية، واصل لبنان اتباع سياسة مستقلة نسبيا عن الضغوط الخارجية، مختلفة قليلا عن مبدأ النأي (الرسمي) بالنفس تقوم على عدم عرقلة نشاط حزب الله في سوريا، و عدم التنسيق في العمليات الحدودية مع سوريا و إنما اعتماد قنوات اتصال غير معلنة.

جمهورية “معلقة”

الأرجح أن حركة أمل حاولت عبر موجة التظاهرات أن تثبت قوة زعيمها الذي عطل مجلس النواب عام 2006. لكن بري يُدرك أن الأيام تغيرت. فالسائد في لبنان بحسب الصيغة الطائفية للحكم هو أن تتفاهم الطوائف الثلاث الرئيسية (السُّنَّة، الشيعة و الموارنة) على نهج محدد أو أن تتحالف طائفتان منهما ضد الثالثة. و اليوم يوجد تفاهم رسمي بين التيار الوطني الحر و حزب الله يسعى الطرفان إلى تثبيته بالرغم من خلافات واضحة، يقابله تفاهم آخر بين التيار الحر و تيار المستقبل و تحالف إنتخابي بين حزب الله و حركة أمل. و هذا يدفع البعض إلى أن يستنتج أن بري يستطيع تعطيل الجمهورية أو تعليقها بمثل ما فعل بمجلس النواب من قبل. لكن ذلك دونه محاذير.

بري في وضع حرج

التظاهرات الأخيرة أصابت حركة أمل بأضرار سياسية كبيرة دفعت قيادتها إلى التنصل من من المشاركين لأن التحركات كانت تنطوي على خسائر اقتصادية كبيرة يمكن أن تصيب لبنان كُلَّه إن لم تُصِبهُ فعلا.

التحالف مع حزب الله له فوائد كثيرة يمكن أن يجنيها بري. لكن هناك محاذير: خسارةُ الحليف السوري يمكن أن تدفعه إلى الإرتماء في أحضان إيران بثمن كبير جدا ربما يتمثل في مساواته من جانب الغرب بحزب الله. و إذا حدث ذلك يجد رئيس مجلس النواب أن المصالح المالية لحركته مُهددةً بعقوبات غربية كتلك التي تُصيب الحزب. أما الثنائية الشيعية القائمة الآن فقد تبقى ثنائية في الشكل و إحادية بزعامة حزب الله في الواقع.

على هذه الخلفية يتحرك التيار الوطني الحر. رئيس مجلس النواب لم يحصل على اعتذار صريح و إن كان رئيس الجمهورية حريصا على أن يحفظ له بعض ماء وجهه. أما إدخال لبنان في لعبة المحاور الدولية و الإقليمية فقد أطال أمد “تعليق” الجمهورية و جعل شبح الحرب الأهلية يعود مجددا بعد اقتحام منطقة ميرنا الشالوحي و بلدة الحدث. و يبقى أن حزب الله لن يتخذ أي قرار إلا بعد مشاورة إيران التي تقف أمام احتمال إلغاء الإتفاق النووي و لو من طرف الولايات المتحدة وحدها. أما الجمهورية الإسلامية فتدرك أن رياح الاقتصاد لا تجري بما تشتهيه سُفُنُها و إنما في تغذية نقمة شعبية متزايدة.

 

 

 

جرجس الضهر

صحافي سابقاً

اقرأ الآن