YOUTUBE
Twitter
Facebook

4 آب، ذلك اليوم الماراتوني منذ الصباح الباكر، بدأت نهاري.

ذلك اليوم لم يكن عادياً، كان من المقرر أن أشتري بعض الحاجيات، وكان علي أن أتوجه الى منطقة برج حمود، لكن، شيء ما أوقفني، شيء ما بداخلي منعني من التوجه الى تلك المنطقة.

اتصلت بصديقتي وزميلتي كلود، استفسر منها لتخبرني اذا كان لديها فكرة أين ممكن أن أجد الغرض الذي أنوي شراءه، اقترحت علي سوق جبيل “ما الك إلا جبيل، الا ما تلاقي هونيك”. هذا ما قالته.

هنا أستطيع أن أقول أن الله دائماً يتدخل لينقذنا من خطرٍ ما، بطرقٍ مختلفة نحن البشر نجهلها.

يبدو أنه تدخل في هذا الاتصال الذي اقترح علي تغيير وجهتي.

انطلقنا أنا وابنتي “صلبنا ايدنا ع وجنا ومشينا”، وفي طريقنا من منطقة الفنار باتجاه جبيل كنت أردد في نفسي “أمن المعقول أن أقود كل هذه المسافة لأشتري غرضاً  من منطقة تلزمني لا يقل عن ساعة قيادة، من السهل ايجاده هنا في أي شارعٍ من العاصمة؟ ما الذي يدفعني أو يمنعني من الذهاب الى برج حمود او الزلقا أو جل الديب او الاشرفية او فرن الشباك او جديدة…؟ لماذا  خالجني ذلك الاحساس الذي قال لي إذهبي الى جبيل ورفض بقوة الذهاب الى برج حمود التي أكلت نصيبها من الدمار؟

في ذلك الوقت، لم يكن لدي الجواب.

أنا اؤمن أن كل انسان يتميّز بالحاسة السادسة، تضاف الى حواسه الخمس. وأنا متأكدة أن كل شخص في بيروت وضواحيها استفاق ذلك النهارمع شعورٍ غريبٍ انتابه في ذلك اليوم المشؤوم.

وصلنا الى جبيل وفعلاً وجدت ما كنت أبحث عنه، وفيما لا نزال في محلٍ تجاري واذ بسيارةٍ تحاول الركن أمام المحل المقابل، شعرنا للوهلة الاولى أنها اصطدمت بالواجهة التي اهتزت لكنها لم تنكسر. لكن سرعان ما تكهنا أن لا بد هذا الصوت ناتج عن انفجارٍ قوي أو زلزال.

وبدأ من كان في المحل باتصالاته، بسبب حجم قوة دوي الانفجار، كل واحد اعتقد أنه حصل في المنطقة التي يقطن فيها. منهم من قال وقع انفجار في الاشرفية وآخرون أكدوا انه في وسط بيروت وآخرون في برج حمود والبعض جزم انها عملية اغتيال لشخصية سياسية…..

كانت الساعة السادسة و6 دقائق بعد ظهر يوم الثلثاء 4 آب 2020. ولد ارتباك في كل مكان…

في تلك اللحظة، وصلني الجواب عن أسئلتي، فهمت لماذا خالجني ذلك الشعور الذي منعني بالتوجه الى تلك المناطق أو حتى بالبقاء في المنزل، فمنطقة الفنار بدورها أكلت نصيبها من الاضرار المادية والهلع سيطر على سكانها، نظراً لموقعها الجغرافي المقابل لواجهة المرفأ. لكن هذا لا يعني أن من ذهب ضحية هذا الانفجار الهائل حدسه لم يخدمه.

لا أعرف وصف احساسي في تلك اللحظة، الخوف من الذي حصل وما سيحصل، الخوف على اولادي، الحمد والشكر للخالق أننا لا نزال أحياء، الخوف على ابني الذي لم يكن برفقتنا بل كان في طريقه الى المنزل، ولم يكن بمقدوره الرد على هاتفه؟

في هذه الحالات تقطع الاتصالات.

تتصل شقيقتي لتقترح علينا بعدم العودة الى بيروت والمكوث عندها في منطقة حالات القريبة من جبيل، لكن كان علي العودة الى بيروت للاطمئنان على ابني وعلى المنزل وعلى الجيران والاصدقاء…

ابنتي تسألني هل بمقدورك القيادة، ومشاعر الهلع بادية علي؟

أجبتها لا تخافي نحن جيل الحرب اعتدنا السير بين الألغام، على الرغم من كل الذي عانيناه نحن هذا الجيل الصلب، نحمد الله أننا لا نزال أحياء وبكامل قوانا العقلية.

اعتقدنا انها محاولة اغتيال لشخصية سياسية. لكن الامر كان مختلفأ هذه المرة، الانفجار اغتال بيروت “ست الدنيا” و”أم الشرائع” و”سويسرا الشرق” وأبناء بيروت وزوّار بيروت وعمّال بيروت وأحياء بيروت ومقاهي بيروت ومستشفيات بيروت ومدارس بيروت وجامعات بيروت وكل ما له علاقة بحضارة بيروت…

في طريق العودة بدأت ملامح الاضرار التي سببها الانفجار الضخم الذي لم نشهد مثيلاً له، تظهر لنا، بدءًا من منطقة ضبية وصولاً الى انطلياس والزلقا ونهر الموت والجديدة والفنار والقلق بادٍ على وجوه المواطنين الذين كانوا يقودون سياراتهم على الطرقات.

لم يعد هناك من زجاج ليس في بيروت فقط  انما في كل المناطق المحيطة بها لا سيما الساحلية منها المواجهة للمرفأ.

وهكذا في أقل من ثانية، دمّرت بيروت من جديد. بدت كأنها خرجت منهكة من المعارك. لكنها ستعود…

نشكر الدول التي سارعت لتقديم النجدة والمساعدات على أنواعها. وعلى رأسها فرنسا التي عقدت مؤتمراً دولياً خاصاً بلبنان.

 وسط هذه المجزرة وهذا الألم وهذا الدمار وهذه الدماء وهذا الحطام وهذه البشاعة وهذه اللامسؤولية، إلا أن مشهداً واحداً رائعاً طغى على مشهد الانكسار والهزيمة، مشهد هرولة أبناء بيروت وأصدقائها ومحبيها بشبابها وصباياها وشيبها من مختلف انتماءاتهم وطوائفهم، لمد يد المساعدة بدءًا من إزالة الركام ومسح الألم عن وجوه المتضررين والمصابين في أي شارعٍ أو زاوية أو أي درج أو مستشفى أو مستوصف…

صحيح أن بيروت فقدت أبناءً أعزاء وأصيبت عائلات، لكننا نحن أبناء الرجاء، سننهض من جديد وسنعيد بناء عاصمتنا الجميلة لأن ما يميّز بيروت إصرار أبنائها ” الحصن المنيع” بمنع سقوطها. لأن اذا سقطت بيروت ستسقط عواصم الدنيا بأكملها.

سميرة اوشانا

اقرأ الآن