YOUTUBE
Twitter
Facebook

وأدرك الماجدة الصباح، ولم تنتهِ حكاياتها التي كانت ترويها عن بيروت في القاهرة. وأمام جمهور يعشق لبنان وبيروت، جاء ليرسل التحية عبر سفيرة السلام والمحبة والحرية ورفض الهزيمة. ماجدة الرومي، أتت وصدحت، وقالت أغنيتها وأدمعت ثم مشت وفي القلب حسرة محب على وجع الحبيبة.على مسرح ضخم، وفي مكان ضخم، وأمام قصر يحكي التاريخ بجمال وأناقة وبهاء، وقفت السيدة الكبيرة كما ملكات ذاك الزمن البهيّ، بفستانها الأبيض المليء بعطر وطيب، وقالت قبل أن تغنّي للحاضرين من الجمهور الآتي إليها من كل أرجاء مصر العربية، قالت: بيروت ستعود وتقوم. ليست المرة الأولى التي نقع فيها، ولن تكون الأخيرة، لكننا منذ الأزل وفي كل مرّة نقوم، ووجع بيروت وهي تحكيه لمحبيها، ذوّب على خديها دمعتين، وترك في حنجرتها غصّتين، وأطلقت بدل صرخة الرفض، صرختين.ثم حيّت مصر العظيمة، بأغنية وثانية وثالثة ورابعة. أما الأولى فكانت “على باب مصر” التي فيها اختصر كامل الشناوي بصوت أم كلثوم وألحان محمد عبد الوهاب، تاريخ مصر في مرحلة ذهبية، وعصر جمالها. ثم الثانية فكانت الإصرار على الخروج من الهزيمة بسلاح الأمل، وأغنية “ما دام أنا أملي معايا وبإيديا سلاح” التي كتبها عاصي ومنصور الرحباني بعد نكسة حرب حزيران عام 1967 ولحنها محمد عبد الوهاب. وثالثة كانت “سواعد من بلادي تحقق المستحيلا” وهي أيضاً من ألحان محمد عبد الوهاب، وشعر الأخوين رحباني. والرابعة كانت تحية منها وأغنيتها “يا مساء الخير يا مصر” من مروان خوري. أما الخامسة فكانت عندما اختتمت بقسم عبد الحليم حافظ الذي كان أقسم أن يفتتح كل حفلاته بها … هي “أحلف بسماها وبترابها.. ما تغيب الشمس العربية طول مانا عايش فوق الدنيا” التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي، ولحنها بليغ حمدي. وهنا تظهر عروبة ماجدة التي تكررها باستمرار، وتقول كلنا وطن واحد من المحيط الى الخليج. هكذا تعلّمت من أبي في طفولتي، وهكذا قرأنا في الكتب والتاريخ والجغرافية. ولن تفرقنا الأيادي السود. لأننا أصحاب حق وفي قلوبنا إيمان.لم تكن هذه المرة كما المرات السابقة. فالأغاني، هي غير الأغاني. والموسيقى هي غير الموسيقى، والظروف غير الظروف. لكن الجمهور كان مضاعفاً، على الرغم من الوباء والإحتياط الذي أخذته على عاتقها الشركة المنظمة. إلا أن التنظيم كان ممتازاً ومتقناً، بلا أي غلطة. كل شيء مدروس بدقة وعناية فائقة. تنقّل صوتها بين ألحان حليم الرومي وجمال سلامه وكمال الطويل وإحسان المنذر ونور الملاح ومروان خوري وغيرهم. مع أوركسترا القاهرة الفيلهارمونية الرائعة، بقيادة فنان كبير ومرهف هو المايسترو نادر عبّاسي. الذي قاد ومعه مئة عازف من مصر ولبنان، موسيقاه بكل شطارة وحرفية ومستوى رفيع. واستمتع الحاضرون بسهرة تمنّوا لو طالت وطالت ليستمعوا إلى كل أغاني الماجدة، التي كان واضحاً أنهم حفظوها من زمان. لكن ظلّت لحظة الإفصاح عن الوجع، هي اللحظة التي وقفت فيها الماجدة،لتعبّر عن وجع كبير قائلة :

“تعوّدنا نفيق، نلملم دموع، نلملم شُهدا، نكنّس قزاز، ونكمّل الحياة؛ غريب قدَر هيدا الشعب اللبناني، بيندَبح بيندَبح، بيرجع بيوقَف، ولا يوم كسَر جناحه اليأس، ولا يوم؛ ولو بعد بدُّن يكمّلوا مليون سنة، إلنا حقّ بالسيادة، بالحُريّة، بالاستقلال؛ نحن مَنّا شعب برسم الموت، نحن خلقنا لنعيش حياة كريمة، ومنستحقّ كل أوسمة الحُريّة؛ بكرا أحلى، لأنّو بكرا نهارجديد، لأنّو الأمل نحن منصنعوا، نحن عملناه قبل، و نحن منعملوا بكرا؛ صحيح النّكبة أكبر من أي وقتٍ مضى، كبيرة كبيرة، صعبة كتير، بس بُكرا الله بيبعتلنا سلالم على هالخندق الغميق اللّي وقّعونا فيه صُنّاع الحروب، أشباح الظّلام، وطاويط اللّيل، سمّوهن متل ما بدكُن؛ بعرف إنوا هالسّلالم الله رح يبعتها، متل ما دايماً بيبعتها، حنطلع عليها، نطلع للشّمس، نطلع للنّور؛ خلقنا لنعيش، مش لنموت، و بعرف مش حيصير إلّا هيك، لأنّو الله مع كلّ حقّ، الله معنا، الله مع لبنان…”.

وكادت أن تفقد السيطرة على مشاعرها. عندما استدركت الأمر، وانطلقت تغني “يا بيروت، يا ستّ الدنيا يا بيروت”.. وغناها المصريون معها بكل حب وشوق.سيكون صعباً وصف اللحظة، بل كل لحظة من هذه السهرة التاريخية. لكنها الماجدة الرائعة، التي أينما حلّت، حلّ معها الحب والسلام. ولم يفت الصحافة المصرية أن تقدّم لها تحيتها، عندما كرّمتها صحيفة “الأهرام” المصرية العريقة، لمناسبة 145 سنة على تأسيسها. ومنحتها مفتاح الأهرام، وفي المناسبة ألقت السيدة اللبنانية العربية كلمة أسرت فيها المشاعر. حيث حضرت أسرة الصحيفة من كبيرها الى صغيرها، لترحّب بالسيدة الكبيرة. حضرت ماجدة الرومي، وكما في كل مكان تحضر فيه، تبهر الناس وتسحرهم، هي السيدة الجميلة قلباً وقالباً وروحاً… ماجدة الرومي، فخر لبنان والعرب وصوت الناس الى الناس. ما أجمل حضورها..

وكانت أسرة جريدة “الأهرام” المصرية ، لمناسبة مرور 145 عاما على تأسيسها، قد كرّمت الفنانة ماجدة الرومي، وسلمتها نسخة من العدد الصادر في يوم ميلادها.

وكانت كلمة للفنانة الرومي، قالت فيها: “شرف لي كبير أن أقف اليوم على هذا المنبر المهيب في جريدة الاهرام العريقة، لاقتبل باعتزاز تشريفكم بتكريمي، أنتم، أركان أعرق جريدة عربية في شرقنا العربي، الاهرام التي أجلها وافتخر بأصالة بصمتها المصرية العربية، واحترم هيبتها ووقارها ورصانتها ومصداقية احترافيتها ودعمها، مذ كانت، لكل فن جميل وكل فكر خلاق، وكل حق”.

أضافت: “الاهرام، التي ما فتئت منذ مئة وخمسة وأربعين عاماً، تحمل الينا، كل صباح، الشمس والياسمين والقهوة واخبار العالم، وتواكبنا انى كنا، على دروب الحياة، حتى غدت جليسة الايام ورفيقة مشوار العمر”.

وتابعت: “علاقتي بالاهرام اقدم واغرب مما قد يتصور البعض. فجد أمي، المصرية، كان محرراً في الاهرام قبل نحو مئة عام، اسمه يوسف حبيب، وكان يعيش يومذاك وأسرته، في مسقط رأسه شبرا. ومن غرائب الصدف أن مؤسسي الاهرام، سليم وبشارة تقلا، ولدا في البلدة التي انا منها: كفرشيما المطلة على المتوسط، المتكئة على كتف جبل لبنان الاشم، كاميرة الحكايات الجميلة. هكذا عرفت بلدتنا كفرشيما يوم كان لبنان الحبيب وطن السلام والنور والعز والبركة والخير، ومنارة ساطعة للثقافة والفنون الجميلة. نعم، هكذا عرفت لبنان، رغيد العيش، قبل ان يصيبنا ما لم نحسب له حساباً ولا خطر على بال ابشع الكوابيس. الحرب”.

وقالت: “حرب العام 75 الرهيبة المشبوهة المستوردة على محليتها، المثقلة بأهوالها وأشباح ظلامها، التي أتتنا من حيث لا ندري في ليلة ليلاء، فافترستنا الواحد تلو الاخر وكرت السبحة، وراحت – عاماً بعد اخر – تسرق منا مفاتيح سيادة لبنان واستقلاله، في ظروف، وحده الله يعلم ما كان مدى خطورتها وقساوتها. لكننا، وعلى الرغم من عنف كل من خان وتقاتل بنا، وبطوائفنا من داخل لبنان وخارجه، وفي ظل سطوة صناع الحروب، وبشجاعة لا أعرف كيف أصفها لكم، ولا أعرف من أين أتتنا، أكملنا الطريق وسط حقول ألغامهم وأزهرنا، في كل مكان أزهرنا، بين متراسين وبين دمعتين وبين مدفعين وبين ملجأين ازهرنا، وتفوقنا وتمايزنا، في كل ارض وفي كل مجال. وواجهناهم، بروح الأرض التي بقيت حية نابضة فينا، بالثقافة والفنون الجميلة واجهناهم، وما الثقافة والفنون الجميلة سوى روح الشعوب الناطقة باسم بلدانها. وقاتلناهم بالحب، بالصلاة والصمود بالإيمان المطلق بالله وبلبنان، وبدعم مصر والاخوة العرب جميعاً وبعض الدول الغربية لنا، مشكورين، محاطين بكل الإجلال والتقدير. نعم قاتلناهم بكل ممكن. لكن شرهم كان لنا بالمرصاد فأفقرونا في ليلة واحدة. وجوعوا شعبنا وهجروا شبابنا لافراغ الارض”.

وتابعت: أتساءل أحيانا: لصالح من هم يفرغون الارض كلها؟ ثم جاء دور بيروت، فهشموا وشوهوا وجهها الجميل، لا لسبب إلا لأنها عاصمة الحياة، فهوى مرفأها العريق، وهوت معه كل قلوبنا في يوم اسود، قد يستحيل على اي لبناني ان يشفى من هول احداثه. هذا الانفجار الرهيب الذي لا نعرف ولن نعرف إن كان أتانا من الجو أم من تحت الماء لشدة ارتجاج الارض تحتنا، أم من بر الالغاز. روعنا، صدمنا، قتلنا. فكيف ستمحى بعد من ذاكرتنا هذه المأساة وكيف سنتمكن بعد من تخطيها. لا اعرف. لكنني أعرف انني بعد الرابع من اب لم أعد أنا. سيادة لبنان ولملمة دموع شعبه وبلسمة جراح بيروت المنكوبة، أضحت كلها هاجسي الأول الآن. عدا ذلك لم أعد معنية لا بالأخبار ولا بالخطب ولا بالسياسة، وما عدت أنتظر من أحد أي عدالة، لأني لم أعد أؤمن الا بعدالة السماء، وكلي انتظار”.

وقالت: “يا سامعي الصوت. يا اركان الاعلام الناطق باسم الهوية العربية والكرامة العربية، أنتم تابعتم وتتابعون ما يحدث في لبنان المنكوب، وتتابعون بالتأكيد كيف تذبح دولنا الواحدة تلو الأخرى وتتقطع أوصالها، لا لسبب إلا لاننا ضمن امتداد أرض عربية واحدة تقاس بمقياس مصالح سياسات هذا الكون. لذا لن انتظر ذبح باقي الارض العربية – لا سمح الله- الأرض التى أحبها وأنتمي إليها حتى اقول كلمتي، بل سأقولها الان في حضوركم وأمام الله وضميري، وبالذات من أرض مصر الابية البهية التي لطالما دعمتنا ووقفت الى جانبنا، مصر حاضنة شعوب الدنيا والمواهب الفنية والاقلام المبدعة المصرية والعربية كلها، وقضايا الحق كلها، بحب آه كم يذهل وكم يشفي. كيف لا وهي أم الدنيا التي ما استقبلتنا يوما إلا بالأحضان وما دخلناها يوما إلا آمنين”.

وتوجهت إلى الحضور: “هاكم كلمتي فاستحلفتكم بالله اسمعوها: صرختي هذه اليوم، هي صرخة لبنان المنكوب وأنينه. هي استغاثة كل لبناني شهيد حي لا صوت له سوانا. يسألكم أنتم، الإعلام الحر، بقدر ما يسأل جامعة الدول العربية والمسؤولين العرب جميعا، ويسألني بقدر ما يسأل أيضا كل لبناني، وكل من موقعه باسم الله وباسم الإنسان، أن نكون له صوتا صارخا فاعلا مدافعا عن حقوقه المسروقة وبلده المنكوب. بالتأكيد لن نتمكن من إعادة البسمة إليه اليوم ولكن، يكفي أن نسانده الآن كي نعيد إليه الثقة بالحياة ونمسح عن وجهه دمعة، آه كم تحرق وكم تقسو. إسألوني. من منبركم الكريم، أعلن تأييدي له حتى الموت، فإن عشت فإنما له ومعه أعيش، وإذا مت فمعه في الخندق ذاته أموت. نموت حبا. نموت وقوفا. نموت ولبناننا نحن تاج على رؤوسنا، أشرف وأطهر وأنبل من أن يطال أو يمس. ونبقى الى الابد، أبناء العزة والكرامة، أبناء النور والسلام والأمل والهامة المرفوعة، حراس لبنان السيادة والاستقلال والحرية، رغما عنهم، شاءوا أم أبوا. هذه هي كلمتي أمامكم ايها الكرام، فليحتفظ بها التاريخ عن لساني، وليعتبر منها من يريد أن يعتبر، ويعي أبعادها الخطرة من يريد، فيتصرف اليوم اليوم، وليس غدا، وفق ضميره ووفق مسؤوليته التاريخية تجاهنا جميعا، نحن الأرض العربية الواحدة”.

وختمت: “تفضلوا بقبول بالغ تأثري وجزيل شكري وامتناني على تكريمكم الغالي لي، وليدم لنا اعلامكم الحر ومنبركم العريق، ولتعش جريدة الاهرام سنين بعد عديدة لا حد ولا حصر لها، بعدد رمل البحر قراؤها، وعدد نجوم الفلك اقلامها المدافعة عن الحق والخير والحياة والسلام”. يذكر أن الفنانة الرومي أحيت حفلة في قصر القبة التاريخي والأثري، الذي استضاف حدثا فنيا للمرة الاولى بعد ترميمه وتجديده. حيث غنّت ماجدة لأم كلثوم وباقة من ألبومها الخاص. برفقة اوركسترا الاتحاد الفيلهارموني بقيادة المايسترو نادر عباسي من دار الاوبرا المصرية.

 

 

 

اقرأ الآن