YOUTUBE
Twitter
Facebook

 

أتَوا من ظلمة “المجتمع الصغير” الى ظلمة “المجتمع الكبير”! تربوا ونشأوا في الشارع، كسبوا مبادىء الفقر والعنف، وما عرفوا يوماً لا ضوابط ولا مسؤولية.

تراهم هنا وهناك، في الساحات، في الشوارع، أمام المقاهي، أمام المحال التجارية، أمام دور السينما، وفي الأماكن المهجورة والخرابات… أطفال بوجوه شاحبة، عيون مليئة بالدموع وأجسام هزيلة أتعبها الجوع والفقر! أطفال لا ينتمون لعالم الطفولة بشيء سوى بأحجامهم! أطفال اقتلعهم القدَر من أحضان أُسرِهم الدافئة الى أحضان الشوارع الباردة، محولاً حياتهم الى جحيم يغمرها اليأس والحرمان! أطفال لم يتعلموا الحرف واللفظ بعد، وما تسمعهم يرددون إلا جملة: “الله يعطيك، الله من عندو يحميك” ؛ تعلموها كما تعلموا التنفس في “مدرسة الشارع”. لكن، من سيعطيهم حقهم بالطفولة التي حُرموا منها، ومن سيحميهم من غدر المجتمع ؟

 

تخيّل أن الرصيف فراشك، والسماء سقفك، والجسور غطاؤك! تخيّل أن لا مأوى لديك سوى تلك الجسور وتلك الأرصفة لتحتمي من الأمطار والبرد القارس! تخيّل أنك تتسوق من المكبات ثياباً ترتديها! تخيّل أنك تبحث عن ما تسُدّ به جوعك في مكبات النفايات! تخيّل أن أحد أولادك أو أشقائك الذي لم يبلغ العاشرة من عمره بعد، يتسوّل ليلاً نهاراً لجمع المال! هذه التخيلات القاسية هي واقع تعيشه تلك الطفلة الصغيرة التي أصادفها يومياً في الصباح الباكر على تقاطع طريق، تقف على قدميها شبه العاريتين في البرد القارس، ترتدي ثياباً خجولة، تجوب الشوارع متنقلة بين السيارات، تعرض مسح الزجاج وتنظيفه، تتوسّل المارة لإعطائها بعض النقود لشراء الدواء لوالدتها المريضة. هي طفلة محرومة من كلّ ذرّة حنان، منفيّة عن ذاك الحضن الدافىء، يغمر الظلم والقهر والعذاب عينيها. تحتار بملامحها، بأسلوبها وبمدى صدقها! تشكّ في طيبتها قبل أن تستدرك أن الشوارع قد مزّقت براءتها! تشعر في بعض الأحيان أنها تفوقك ذكاءً، وأحياناً أخرى تدمع لسذاجتها، وتبقى غارقاً بين دوامات تقذف بك يميناً وشمالاً، فلا تصل الى أي نتيجة تشفي أسئلتك سوى حقيقة الشفقة على حالها!

 

نَعَم، إنه مشهد يقشعر له البدن، يُشعرك بالحزن على أطفال غَدَر بهم الزمن، وبالنقمة على مجتمع لامبالٍ، وحكام ما همهم سوى السلطة.

بالطبع، لا يمكن لأحد أن يلوم هؤلاء الأطفال، فهم، ولسوء حظّهم ضحايا عوامل إجتماعية وإقتصادية وإنسانية لم ترحمهم ولم تترك لهم فرصة الخيار أمام صعوبة الظروف التي يعيشونها. فالأسباب التي شرّدتهم والتي أودت بهم، ليسوا المسؤولين عنها. فهل هم المسؤولون اذا وُلدوا فقراء؟ وهل هم المسؤولون إن لم تسمح لهم الظروف بالدخول الى المدرسة ومتابعة دراستهم؟ أم أنهم المسؤولون عن المشاكل العائلية وعن تفكك أُسَرِهم؟

في المجتمعات كافة، يجوب المشرّد الفقير الجائع، الكبير كما الصغير، الشوارع ليبحث عن ما يسدّ به جوعه ولو كانت بقايا قمامة. يسرق في بعض الأحيان ليأكل أو ليؤمن الطعام لنفسه أو لعائلته. أهو مسؤول، أم أن “الجوع كافر” حسب قول مأثور للمغاربة؟ وهل أن الغاية تبرر الوسيلة؟

 

 

وفقاً للإحصاءات الأخيرة عن ظاهرة الأطفال المشردين، نلاحظ معدلات مرتفعة ومتزايدة عاماً بعد عام بسبب الظروف الإجتماعية والمادية القاسية التي تمرّ بها المجتمعات ونتيجة التهميش والفقر والبطالة؛ فأثارت مشكلة الإنقطاع المبكر عن الدراسة جدلاً واسعاً على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي. هناك العديد من الأُسر التي تعدّت خطّ الفقر يصعب عليها توفير أدنى مستلزمات الدراسة لأبنائها، فينضمّ بالتالي هؤلاء الى قافلة المشردين الأُميين.

مؤخراً، باتت ظاهرة التفكك الأسري متفشية في المجتمعات كافة، الفقيرة كما الغنية، نتج عنها ضحايا هم في معظم الأحيان أطفالاً وأولاداً لم يتعدوا سنّ المراهقة. أمهات دون أزواج، أمهات لعدة أولاد في مجتمع يصعب على حَمَلة الشهادات والمؤهلات العلمية أن يجدوا عملاً فيه، كيف لأم تركها زوجها أو توفي أن تجد وظيفة تؤمن من خلالها حاجات عائلتها. نصادف في أيامنا هذه، نماذج عدة تشبه الواقع المرير الذي نكتب عنه هذه السطور. أولاد من عمر براعم الورد، تركوا مقاعد الدراسة في السنوات الأولى ليلتحقوا بزملاء سبقوهم الى التسول في الشارع، علَّهم يؤمّنون ما حُرموا منه من أولياء نسوا أو تناسوا  وجودهم. من هنا، تبقى أسباب التشرد عديدة، لا تُحصى ولا تُعدّ ونتائجه مهدِّدة لكيان المجتمع ولتكوين الأسرة.

 

أثبتت الدراسات الأخيرة أن هناك حوالي 1500 طفل مشرّد على الطرقات، 37% هم من النازحين السوريين، و27% هم من اللبنانيين. من بين هؤلاء هناك 43% يتسوّلون في الشارع، و37% يعملون في أعمال “حقيرة” لا تتناسب مع اعمارهم. من هنا، اقترح وزير العمل سجعان قزي إنشاء مؤسسة مختصة لاستقبال الأطفال المشردين في الشوارع ووضعهم فيها، وعرضهم على طبيب نفسي، ساعياً الى بناء هذه المؤسسة التي تهدف الى إخفاض عدد الأطفال المشردين في الشوارع. وأكّد بدوره أنّ حلّ هذه المشكلة، مسؤولية جماعية تتحمّلها مجموعة من الأجهزة الأمنية والوزارات المختصة بالطفل والأسرة، والشؤون الإجتماعية والجمعيات الخيرية المتختصصة في استيعاب وتأهيل الأطفال المشردين. وأكّد على وقوف وزارة العمل الى جانب كلّ من يسعى من المنظمات الدولية لمعالجة هذه الظاهرة، بالإضافة الى وجود لجنة وزارية برئاسته لمناقشة القانون المتعلّق بوقف الإتجار بالبشر ولمكافحة أسوأ أشكال أعمال الأطفال.

 

فلا بدّ من تفعيل دور المجتمع المدني في هذا المجال، والسعي بجدية مع كافة الجمعيات والمؤسسات الإجتماعية كما المنظمات غير الحكومية، للحدّ من إنتشار هذه الظاهرة وما يترتّب عنها من نتائج كارثية، كالانحراف والأمراض والإستغلال الجسدي والجنسي، التسوّل والإجرام… بهدف محاربة آفة التسوّل وتبنّي مشاريع وخطط مدروسة، من شأنها تطويق هذه الأزمة المستفحلة.

للأسف، لا نعرف من طفل الشارع سوى ذاك الطفل المتّسخ واللّص والمنافق،… لا نشعر بما يخفيه هذا الكائن من مآسٍ ومصاعب ومشاكل وآلام، وما الذي دفعه للوصول الى الشارع. الأطفال جواهر ثمينة، كلما حافظنا عليها كلما ازداد بريقها، هم طاقة المستقبل والأمل المنتظر.

 

“اعطونا الطفولة”  أغنية وأمنية لن تتحقق إلا بتضافر جهود الدولة لإعادة البسمة الى وجه كلّ طفل مشرّد سُجنت براءته وراء قضبان الشارع! فالطفولة زينة كلّ بيت وربيع كلّ اُسرة، والأسرة هي صانعة الطفولة. لذا، علينا كمجتمعات حديثة وفي طَور النمو أن نكثّف الجهود للقضاء على ظاهرة التسوّل السلبية والخطيرة والتي هي بمثابة مرض أو وباء، إذا لم نعالجها، انتشرت واستشرت ومزّقت جسد المجتمع، كما سبق ومزّقت جسد أطفال حَلِموا بأن يكافح هذا الوباء ويقضى عليه.

 

سينتيا مطر

اقرأ الآن